"المروءة"
كتبه/ حنفي مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فإن الله -تبارك وتعالى- أمرنا بمكارم الأخلاق ورغبنا فيها، وجعل نبينا -صلى الله عليه وسلم- له التمام في مكارم الأخلاق؛ لأنها مِن شيم وسمت الكاملين الفاضلين، وإنما بُعث -صلى الله عليه وسلم-؛ ليتمم مكارم الأخلاق، وكان السلف الصالح -رحمهم الله تعالى- على مكارم الأخلاق، فأصبحت لهم سجية وطبعًا، فكانوا القدوة لمن جاء بعدهم، وإن مكارم الأخلاق لتظهر جلية واضحة في شهر "رمضان" المبارك بتمامها وكمالها، فإن الصائمين القائمين ليقتدون بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في مكارم الأخلاق؛ لأنه السابق الكامل في كل خلق كريم.
ويكفي أن الله -تبارك وتعالى- مدحه وأثنى عليه، فقال في حقه -صلى الله عليه وسلم-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم:4).
قال الإمام الجنيد -رحمه الله-: "سُمي الله خُلقه عظيمًا؛ لأنه لم تكن له همة سوى الله -تعالى-"، وقيل: سمي خُلقه عظيمًا؛ لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، يدل عليه قوله -صلى الله عليه وسلم-: (إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ) (رواه الإمام أحمد والبخاري في الأدب المفرد والبيهقي، وصححه الألباني).
قال الفيروز آبادي -رحمه الله تعالى-: "اعلم أن الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق؛ زاد عليك في الدين".
فمكارم الأخلاق منها ما هو طبع، يتفضل الله -تعالى- على بعض خلقه، فيجبلهم عليها ويطبعهم بها من غير كسب منهم ولا جهد، ومن لم يؤته؛ فهو مكلف بمجاهدة نفسه وحملها على مكارم الأخلاق، فإن النفس قابلة لذلك.
قال أبو ذؤيب الهذلي:
والنفس راغبة إذا رغبتها وإذا تـرد إلى قـليـل تـقـنـع
ومما يدل على أن الأخلاق الفاضلة تكون طبعًا، وتكون تطبعًا: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأشج عبد القيس: (إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ: الْحِلْمَ وَالأَنَاةَ) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَنَا تَخَلَّقْتُهُمَا، أَوْ جَبَلَنِي اللهُ عَلَيْهِمَا؟ قَالَ: (بَلِ اللهُ جَبَلَكَ عَلَيْهِمَا). قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي عَلَى خُلُقَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ وَرَسُولُهُ. (رواه الإمام أحمد وأبو داود، وصححه الألباني).
وإن من مكارم الأخلاق العالية السنية، بل جماع مكارم الأخلاق.. خلق "المروءة":
فـ"المروءة" سجية جُبلت عليها النفوس الزكية، وشيمٌ طُبعت عليها الهمم العلية، وضعفت عنها الطباع الدنية، فلم تطق حمل أشراطها السنية.
فاعلم -رحمك الله وهداك، وثبت على الخير خطاك، ورقَّاك وزكَّاك- أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم: "المروءة" التي هي حلية النفوس وزينة الهمم. "المروءة": مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد، ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق.
فـ"المروءة" هي: جماع مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، وكمال الرجولة، فهي تبعث على إجلال صاحبها، وامتلاء الأعين بمهابته.
سئل الفضيل بن عياض -رحمه الله- عن الرجل الكامل التام "المروءة"، فقال: "الكامل من بر والديه، ووصل رحمه، وأكرم إخوانه، وحسن خلقه، وأحرز دينه، وأصلح ماله، وأنفق من فضله، وحسن لسانه، ولزم بيته".
وقال الشاعر:
وإذا الفتى جمع المروءة والتقى وحوى مع الأدب الحياء فقد كمل
وقال بعض العلماء: "اتق مصارع الدنيا بالتمسك بحبل المروءة، واتق مصارع الآخرة بالتعلق بحبل التقوى؛ تفز بخير الدارين، وتحل أرفع المنزلتين".
قال ميمون بن ميمون -رحمه الله-: "أول المروءة: طلاقة الوجه، والثاني: التودد، والثالث: قضاء الحوائج".
وقيل لسفيان بن عيينة -رحمه الله تعالى-: "قد استنبطت من القرآن كل شيء، فأين المروءة فيه؟ فقال: في قوله -تعالى-: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف:199)".
ففيه "المروءة"، وحسن الأدب، ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: (خُذِ الْعَفْوَ) صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين، ودخل في قوله: (وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) صلة الرحم، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغض البصر، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله: (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) الحض على التخلق بالحلم، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة، والأفعال الرشيدة.
قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن -رحمه الله-: "للسفر مروءة وللحضر مروءة، فأما مروءة السفر: فبذل الزاد، وقلة الخلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله، وأما المروءة في الحضر: فالإدمان إلى المساجد، وتلاوة القرآن، وكثرة الإخوان في الله -عز وجل-".
سئل الأحنف بن قيس عن "المروءة" فقال: "صدق اللسان، ومواساة الإخوان، وذكر الله -تعالى- في كل مكان".
وقيل: "لا مروءة لمن لا أدب له، ولا أدب لمن لا عقل له".
وقال مسروق -رحمه الله-: "كان يقال: مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلب صدأ الذنوب، ومجالسة العلماء تزكي القلوب".
ومروءة الرجل: صدق لسانه، واحتمال عثرات جيرانه، وبذله المعروف لأهل زمانه، وكفه الأذى عن أباعده وجيرانه.
ومروءة كل شيء بحسبه: فمروءة اللسان: حلاوته وطيبه ولينه، ومروءة الخُلق: سعته، وبسطه للحبيب والبغيض، ومروءة المال: الإصابة ببذله في مواقعه المحمودة عقلاً وعرفًا وشرعًا، ومروءة الجاه: بذله للمحتاج إليه، ومروءة الإحسان والبذل: تعجيله وتيسيره وتوفيره، وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه.
وللمروءة ثلاث مراتب:
الأولى: المروءة مع الحق -سبحانه- بالاستحياء من نظره إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس، وإصلاح العيوب وترك الذنوب جهد الإمكان.
الثانية: المروءة مع النفس وهي: أن يحملها قسرًا على ما يجمل ويزين، وترك ما يقبح ويشين.
الثالثة: المروءة مع الخلق بأن تستعمل معهم شروط الأدب والحياء والخلق الجميل، وبذل المعروف والبر والإحسان إليهم طاعة لله، لا يريد منهم جزاءً ولا شكورًا.
ومن الصور المضيئة من حياة أهل المروءة: ما كان عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكارم الأخلاق مع أهله وأصحابه من البذل والكرم والإحسان، وتحمل الأذى، والحلم والعفو عن المسيء، والإحسان إلى المحسن، بل له المنتهى في مكارم الأخلاق، وأما خلق المروءة فله فيه الغاية القصوى، فهو القدوة والأسوة فيه -صلى الله عليه وسلم-.
قال الأحنف بن قيس -رحمه الله-: "الكامل من عدت سقطاته". وقيل: "كان الأحنف بن قيس إذا جاءه رجل؛ وسَّع له، فإن لم يكن له سعة؛ أراه أنه يوسِّع له".
قال الربيع -رحمه الله-: "كان الشافعي مارًّا بالحذائين، فسقط سوطه، فوثب غلام ومسحه بكمه وناوله، فأعطاه سبعة دنانير".
فمن مكارم الأخلاق: "المروءة" التي هي جماع مكارم الأخلاق التي يتخلق بها الصائمون القائمون في "رمضان"، شهر "رمضان" شهر مكارم الأخلاق السامية العلية السنية، شهر تزداد وتعلو فيه مكارم الأخلاق إلى كمالها وتمامها ببركة هذا الشهر المبارك، وأثر الصيام والقيام والأعمال الصالحة وإخلاص النية، فيرى المؤمن أثر الشهر المبارك ظاهرًا واضحًا على النفوس والقلوب، فهو شهر مكارم الأخلاق.
نسأل الله أن يحسِّن أخلاقنا في "رمضان"، وأن يرزقنا مكارم الأخلاق في "رمضان"، وأن يجعلنا من أهل "المروءة"، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
موقع أنا السلفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق