كتبه/ حنفي مصطفى
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله؛ أما بعد؛
فقد قال الله -تعالى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (فاطر:2)، فالله -جل وعلا- الذي يفتح ما انغلق، فأوضح الحق وبيَّنه، ودحض الباطل وأبطله، وهو -سبحانه وتعالى- الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده المؤمنين، ويفتح المنغلق عليهم من أمورهم وأسبابهم، ويفتح قلوبهم وعيون بصائرهم؛ ليبصروا الحق، وهو -سبحانه- الناصر لعباده كقوله -تعالى-: (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ) (الأنفال:19).
أي: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، وهو -سبحانه- الذي فتح قلوب المؤمنين بمعرفته، وفتح على العاصين أبواب مغفرته، ولم يغلق وجوه النعمة بالعصيان، ولا يترك إيصال الرحمة إليهم بالنسيان، فهو -سبحانه وتعالى- "الفتاح".
فمن أسماء الله الحسنى: "الفتاح" في قوله -سبحانه-: (الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) (سبأ:26)، وقرن اسمه -تعالى-: "الفتاح" بـ"العليم"، فهو -سبحانه- أعلم بعباده بمن يستحق الفتح من غيره من عباده، قال -تعالى-: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) (الزمر:22).
وهذا الفتح والشرح ليس له حد، وقد أخذ كل مؤمن فيه بحظ ففاز منه الأنبياء بالقسم الأعلى، ثم من بعدهم الأولياء، ثم العلماء، ثم عامة المؤمنين، ولم يخيب الله منه سوى الكافرين.
وفتح الله -تعالى- لعباده على نوعين:
الأول: الفتح العام للمؤمنين عامة، وهو: نصرهم على أعدائهم، وفتح الله لهم لبلادهم ودخولها الإسلام.
الثاني: الفتح الخاص، وهو: فتح الله لمن شاء من عباده من أبواب الخير والعلم والعمل والرزق بفضله ومنِّه وبره وإحسانه، ولله -جل وعلا- في "رمضان" من الفتوحات لعباده المؤمنين: الفتح العام والخاص ما لا حد له بما يظهر من آثار رحمته وفضله على عباده.
الفتح العام:
وهو: نصر الله لعباده المؤمنين، وفتحه لهم من الفتوحات في بلاد الكافرين، وإعزازه لهم، وتمكينه لهم بلاد ورقاب وخيرات الكافرين فتحًا منه ونصرًا، وكان هذا في "رمضان".
وعلى سبيل المثال لا الحصر:
1- غزوة "بدر الكبرى".. غزوة الفرقان: في السنة الثانية من الهجرة في السابع عشر من "رمضان"، كان نصر المؤمنين على الكافرين، ودائمًا في "رمضان" الفتوحات والانتصارات الحاسمة بين الإيمان والكفر.
2- "فتح مكة": في العشرين من "رمضان" من السنة الثامنة من الهجرة كان الفتح الأعظم الذي أعز الله به دينه ورسوله -صلى الله عليه وسلم- وجنده وحزبه، واستنقذ به بلده وبيته الذي جعله هدى للعالمين من أيدي الكافرين والمشركين.
3- معركة "البويب": في "رمضان" في السنة الثالثة عشر من الهجرة، وكانت هذه الواقعة بـ"العراق" نظير "اليرموك" بـ"الشام"، وكانت تحت إمرة الصحابي "المثنى بن حارثة" -رضي الله عنه-.
4- فتح جزيرة "رودس": في "رمضان" سنة 53 هجرية، وكانت الإمرة للصحابي "جنادة بن أبي أمية" -رضي الله عنه-.
5- فتح "الأندلس": في "رمضان" سنة 91 من الهجرة على يد الفاتح "طارق بن زياد" مولى "موسى بن نصير" -رحمهما الله تعالى-.
يقول المقري في "نفح الطيب": "ذكر عن طارق أنه كان نائمًا في المركب فرأى في منامه النبي -صلى الله عليه وسلم- والخلفاء الأربعة وأصحابه -رضي الله عنهم- يمشون على الماء حتى مروا به، فبشره النبي -صلى الله عليه وسلم- بالفتح، وأمره بالرفق بالمسلمين والوفاء بالعهد".
6- فتح "عَمُّورية" على يد الخليفة العباسي "المعتصم": في "رمضان" سنة 233 من الهجرة، وكانت بسبب امرأة مسلمة، وصلت استغاثتها إلى "المعتصم" فجيَّش الجيوش، ودك الحصون وفتح "عمورية"، ونصر الله جنده، وهزم أعداءه.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفـواه الصبـايا اليـتـم
صادفت أسماعنا لكـنها لم تصادف نخوة المعتصم
7- وقعة "عين جالوت": الجمعة 25 "رمضان" سنة 658هـ الفتح المبين والانتصار الحاسم العظيم، فخر المسلمين على يد الملك المظفر "قظز" قاهر التتار الغاشمين في هذه المعركة الفاصلة بين الإيمان والكفر، والهدى والضلال: (فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام:45)، رحم الله "قظز" فقد كان بطلاً كثير الخير ناصحًا للإسلام وأهله.
8- فتح "أنطاكية": "رمضان" سنة 666هـ، وكانت ضد الصليبيين في بلاد "الشام" مدينة "أنطاكية"، وأما القائد فهو السلطان المسلم والقائد المظفر قاهر المغول والصليبيين "الظاهر بيبرس" -رحمه الله-.
وغيرها من المواقع والمعارك والفتوحات كثير، انتصر فيها المسلمون في "رمضان" الشهر العظيم.. بعد أن صدقوا في جهادهم واستعانوا بالله على أعدائهم، فوفقهم ونصرهم رغم قلة عددهم وعُدَدِهم، وكثرة أعدائهم.
وأما الفتح الثاني فهو الفتح الخاص بالمؤمنين، ومِن ذلك:
1- الفتح في قراءة القرآن وختمه: فالله -تعالى- يفتح على عباده في "رمضان" من كثرة تلاوة القرآن وختمه ما يثير العجب والدهشة، وعلى سبيل المثال لا الحصر:
- كان "جبريل" -عليه السلام- يعرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن في كل سنة في "رمضان" مرة، وفي السنة التي توفي فيها مرتين.
- كان "عثمان" -رضي الله عنه- قد فتح الله عليه في حب القرآن وكثرة قراءته، فكان -رضي الله عنه- يقرأ القرآن في ركعة يوتر بها. وكذلك "تميم بن أوس الداري" -رضي الله عنه-.
- "الأسود بن يزيد النخعي" -رحمه الله- كان يختم القرآن في "رمضان" في كل ليلتين، وفي غير "رمضان" في كل ست ليال.
- وكان "عثمان" -رضي الله عنه- يقول: "لو طهرت قلوبكم؛ ما شبعتم من كلام ربكم".
- قدوة المحدثين والمفسرين: "قتادة بن دعامة السدوسي" -رحمه الله- كان يختم القرآن في سبع، فإذا جاء "رمضان"؛ ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة.
- الإمام "أبو حنيفة النعمان" -رحمه الله- كان يختم القرآن في "رمضان" في كل يوم مرتين، مرة في النهار ومرة في الليل.
- إمام الدنيا وناصر السنة "الشافعي" -رحمه الله-، قال "الذهبي" -رحمه الله- في "السير": قال الربيع بن سليمان -من طريقين عنه، بل أكثر-: "كان الشافعي يختم القرآن في شهر "رمضان" ستين ختمة"، ورواها ابن أبي حاتم عنه فزاد: "كل ذلك في صلاة".
وهكذا يفتح الله على من شاء من عباده في كثرة تلاوة القرآن، وذلك في "رمضان" خاصة، وهذا من بركة الشهر الكريم.
2- فتح الله على مَن شاء مِن عباده في "رمضان" بكثرة الذكر: كانت عائشة -رضي الله عنها- تسبح في اليوم عشرة آلاف تسبيحة، وكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يسبح الله في اليوم اثنى عشر ألف تسبيحة.
فنجد في "رمضان" فتوحات ربانية لعباد الله المؤمنين في كثرة التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، وغير ذلك ما لا نجده في غير "رمضان".
3- فتح الله على من شاء من عباده في كثرة الصدقة في "رمضان" ما لا يكون في غيره: وقد فتح الله عليه أبواب الرزق الحلال وكثَّر ماله، وفتح عليه أبواب الخير من الصدقات، وإطعام الطعام، وإفطار الصائمين، وإطعام الفقراء والمساكين والجوعى، وستر العورات بكسوة الفقراء والمساكين.
فتجد أن الله يفتح على من شاء من عباده من أبواب الخير بأنواع في "رمضان" ما لا تجده في غيره من الشهور.
4- ومن ذلك -أيضًا-: فتح الله على من شاء من عباده في كثرة الصلاة النافلة في النهار والليل: من كثرة الركعات، وطول القراءة في القيام وحب ذلك، فلا نجد له سببًا إلا أن الله يفتح على عباده في "رمضان" بفضله وبره وإحسانه؛ لما لهذا الشهر من الخير والبركة.
5- ومن ذلك -أيضًا-: فتح الله على من شاء من عباده في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفتح قلوب الناس له وقبوله، والتأثر بكلامه والانقياد له، وهذا من فتح الله -تعالى- لمن شاء من عباده الدعاة الصادقين.
6- فتح الله على مَن شاء مِن عباده القائمين في صلاة القيام من الأئمة من حسن الصوت وخشوعه، وأثره على قلوب المصلين، واجتماع الناس خلفه في الصلاة ما ليس لغيره، وذلك من فتح الله -تعالى- على من شاء من الأئمة.
7- فتح الله على من شاء من عباده في الدعاء في القيام؛ بما يكون له الأثر البالغ على النفوس والقلوب بالتزكية والتطهير والانقياد والبكاء ما لا تجده لغيره من الأئمة، وهذا فتح من الله له دون غيره.
8- فتح من الله -تعالى- لمن شاء من عباده من الفهم والتدبر والاستنباط والاستلهام من آيات القرآن الكريم؛ لصفاء الذهن وطهارة القلب وزكاة النفس في "رمضان" ما لا يكون في غيره، كل ذلك من فتح الله -تعالى- لمن شاء من عباده، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
منقول من موقع انا السلفى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق