الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعدُ:
فإن مقاصد الإسلام التي دلت عليها نصوص الشريعة هي تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وهذا ما أكده المحققون من علماء الأمة، قال العز بن عبد السلام: «إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها». [منهاج السنة النبوية: 1/147].
وقال ابن القيم رحمه الله: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ ومصالح كلها وحكمة». [إعلام الموقعين: 3/1].
ومقاصد الحكم في الإسلام لا يقدر على تحقيقها في واقع الناس إلا الحاكم؛ لما له من سلطان، فيتمكن به من تنفيذ ما يعجز عنه آحاد المسلمين، وبذلك نختَصر الطريق ونبلغ الهدف، ونحقق المراد، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
مقاصد الحكم:
قال أهل العلم في تعريف الإمامة «الخلافة»: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». [الأحكام السلطانية للماوردي: ص3]. يعني بذلك أن مقاصد الحكم في الإسلام تنحصر في مقصدين:
المقصد الأول: حراسة الدين:
ويقصد بالدين هنا بداهة الإسلام، فهو الدين المطلوب حراسته بالحكم، وحراسته تعني شيئين: حفظه وتنفيذه.
أولاً: حفظ الدين:
وحفظ الإسلام يعني إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها هو وصحابته الكرام ونقلوها إلى الناس من بعده، وعلى هذا لا يجوز أي تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني، لأن التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع والإحداث في دين الله، ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد، لأن الفرد إن كان مسلمًا فليس من حقه أن يبدل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدًا أن يضل الآخرين أو يفسد عقائدهم، وإن كان الفرد غير مسلم فليس من حقه أبدًا أن يخرج على نظام دار الإسلام ويشوه حقائق الإسلام وإلا كان ناقضًا لعقد الذمة، ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ، نتيجة فهم سقيم أو تضليل خبيث، فيجب على ولي الأمر – الخليفة – أو نائبه، أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان حتى يظهر الحق ويستبين السبيل وتقوم الحجة، فإن أصر المبطل على باطله وسعى إلى نشره في الناس منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع.
وقد أشار الفقهاء إلى ما ذكرناه فقالوا: إن على الإمام «حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسًا من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل». [أبو يعلى الحنبلي ص11].
ومن لوازم حفظ الدين: «تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا ويسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا». [الماوردي ص14].
والحقيقة أن دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه؛ لأن استيلاء الكفرة على دار الإسلام ضياع للإسلام وطمس لحقائقه وفتنة عظيمة للمسلمين، وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع والتضليل، بل نستطيع القول: إن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلاءه وإظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى لا يبقى للكفر حكم قائم ولا راية مرفوعة، وهذا ما أشار إليه الماوردي إذ يقول، وهو يعدد واجبات الإمام: «والسادس جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله». [الماوردي: ص14].
قال الله تعالى: {) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة:33].
ثانيًا: تنفيذه:
وأما تنفيذ الدين «الإسلام»، فهو المظهر الثاني لحراسته، فيتحقق في أمور منها: تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع الدولة، وفي علاقة الدولة – دار الإسلام – مع غيرها من الدول، ومنها: حمل الناس على الوقوف عند حدود الله والطاعة لأوامره وترغبيهم في ذلك ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية، ومنها: إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع كما يقضي به الإسلام، إذ لا يمكن الادعاء بحفظ الدين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة مع توفر القدرة على ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد من مقاصد الحكم الإسلامي، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
المقصد الثاني: سياسة الدنيا بالدين
والقول الجامع في سياسة الدنيا بالدين هو إدارة شئون الدولة والرعية على وجهٍ يحقّق المصلحة، ويدرأ المفسدة، وهذا يتم إذا كانت إدارة شئون الحياة وفقًا لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها بناءً على قواعد الاجتهاد السليم، فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين، ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم الإسلامي ويلتزم بها الحاكم المسلم، والتي أشار إليها الفقهاء ما يأتي:
أولاً: إقامة العدل بين الناس
أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين، الالتزام التام بالعدل في إدارة شئون الناس، وعدم الحيدة عنه مطلقًا؛ لأنه هو الأساس الذي لا قيام لدولة بدونه، ولا بقاء لأمة بفقده، ولهذا كان من صفة عقد البيعة للإمام أن يقال فيها: «بايعناك بيعة رضًا على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة». [أبو يعلى: ص9].
والعدل يتضمن إعطاء كل إنسان حقه، وعدم ظلمه في شيء، فمن الظلم تكليفه بما لا يجب عليه شرعًا أو أخذ ماله بغير وجه حق، أو منعه ما يستحق، وهذا ما أشار إليه الفقهاء، فالفقيه الماوردي يقول – وهو يعدّد واجبات الإمام -: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير عَسَف، وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. [الماوردي: ص12].
والعلاَّمة ابن خلدون يوضح الظلم الممنوع فيقول: «ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقًّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه؛ فجباة الأموال بغير حقها ظَلَمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران». [مقدمة ابن خلدون: ص223].
وعلى هذا يجب على الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم، وأول ما يلزم في هذا الباب اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء، والثاني مراقبتهم.
1- اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء؛ لأن الخليفة لا يستطيع أن يباشر أمور الدولة والقيام على مصالح الناس بنفسه؛ لأن ذلك فوق طاقته، وإنما يباشر أمور الناس بواسطة نوابه أي الموظفين الذين يختارهم، وذلك بتخير الكفء الأمين، ومرد الكفاءة إلى القدرة على ما يتولاه، ومرد الأمانة عدم التفريط بشئون ما ولي عليه من مهام، وقد أشار القرآن الكريم إلى قانون تولي الأمور الواجب مراعاته من كل حاكم، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فإذا وُفق الخليفة إلى حُسن اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم، وشعر الناس بالأمن والأمان والاطمئنان وارتدع أولو الأطماع وأهل البغي، ولا يجرؤ قوي أن يعتدي على ضعيف؛ لأن الدولة أقوى منه، وبذلك يأمن الضعفاء من عدوان الأقوياء.
وهذا كله يؤدي إلى كسب قلوب الناس وتوفيق صلتهم بالدولة وتعلقهم بالإمام، فيزداد حرصهم على بقاء دولتهم، واستعدادهم للذود عنها؛ لأنها في نظرهم كالبيت لهم وكالحارس لحقوقهم، أما إذا عين الخليفة الموظفين العاجزين والفاسدين والخائنين فإن الرعية سيكتوون بنار فسادهم، ويعانون من ظلمهم وبغيهم مما يؤدي إلى ضعف صلتهم بالدولة، فتكثر الثورات و الفتن وتنتشر الفوضى ويعم الفساد.
ولا يشفع للخليفة عند الناس كرهه لتصرفات ولاته الظلمة والفاسدين؛ لأن الناس يحملونه مسئولية أعمالهم؛ لأنه هو الذي ولاهم وأسند إليهم الأعمال، فلا يكفي كون الخليفة صالحًا في نفسه، بل لا بد من اختيار الأكفاء الأمناء، قال الماوردي عند بيان واجبات الإمام: «استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة».
2- مراقبة الأمناء والأكفاء ومتابعتهم:
فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وحتى لو لم يخونوا ويغشوا فالوقوع في الأخطاء أمر غير مستبعد، وظلم الناس خطأ كظمهم عمدًا من جهة حصول الضرر بالمظلوم وكراهيته للظالم، من هنا يأتي الدور المهم للمراقبة المستمرة والدائمة للموظفين حتى لا تقع خيانة أو غش، ويقل بذلك الخطأ ويعرف الناس شدة الخليفة على إقامة العدل ومنع الظلم، ويخرج هو من عهدة الخلافة ومسئولية الحكم، وقد نبّه إلى ذلك الفقيه الحنبلي أبو يعلى فقال: «على الخليفة أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26]، فلم يقتصر على التفويض دون المباشرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» [متفق عليه].
ثانيًا: إشاعة الأمن والاستقرار:
ومن واجبات الخليفة المهمة، وكذلك حكام المسلمين جميعًا: إشاعة الأمن والاستقرار في ديار الإسلام؛ حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وينتقلوا في البلاد آمنين مطمئنين، إن هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق الشريعة الإسلامية، أي بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين بأمن الوطن والمعتدين على الناس، شريطة أن يكون التطبيق عادلاً وعلى الجميع سواء بلا تمييز ولا محاباة، فإذا ما طبقت الأحكام الشرعية على المعتدين والخارجين على القانون، أمن الناس، وخاف المجرم، وتحقق الاطمئنان.
وقد أشار الماوردي إلى ذلك قائلاً: «وعلى الخليفة إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك».
ولا شك أن العقوبات الشرعية لها أثر بالغ وفعال في منع الإجرام وتحقيق الأمان في المجتمع، فهي من مظاهر رحمة الله بعباده.
فبها ينزجر الإنسان عن ارتكاب الجريمة، فيتخلص من الإثم، وإذا وقع في الجريمة فإن إقامة الحد له تطهير وكفارة، فالحدود كفارات، كما أن هذا العقاب للمجرم مصلحة مؤكدة للمجتمع لما يترتب عليه من اطمئنان للناس على حياتهم وأموالهم وإخافة المجرمين، وهذه المصلحة العامة يهون معها الضرر الذي يصيب المجرم بسبب ما اقترفت يداه. قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:179].
ثالثاً: استثمار خيرات البلاد:
ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين: استثمار خيرات البلاد بما يحقق للرعية الاستقرار الاقتصادي والعيش الكريم، وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب، فقد قال أبو يوسف في كتاب «الخراج» الذي وجّهه إلى الخليفة هارون الرشيد: إن على الخليفة أن يأمر بحفر الأنهار، وإجراء الماء فيها، وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك، وهذا نص كلامه: «فإذا اجتمعوا – أي أهل الخبرة – على أن في ذلك – أي في حفر الأنهار – صلاحًا وزيادة في الخراج أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة من بيت المال، ولا تحمل النفقة على أهل البلد، وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أُجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم. وما ذكره أبو يوسف -رحمه الله- من ضرورة حفر الأنهار لأرض الخراج هو من قبيل التمثيل لا الحصر، يدل على ذلك عبارته: وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم أُجيبوا إليه».
(وأرض الخراج: هي الأرض التي فتحها المسلمون وتركوها بيد أهلها على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة تسمى: الخراج).
كما يمكن القياس على ما ذكره أبو يوسف في جميع الأعمال اللازمة لاستغلال ثروات البلاد وخيراتها على وجه يعود بالنفع العميم على الجميع، فهذه يجب القيام بها، مثل تنظيم الري في البلاد، وإقامة السدود، وتحسين الزراعة، واستخراج المعادن والبترول، وإقامة المصانع، وإصلاح الطرق التي تسهّل نقل المحاصيل، وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وعدها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال.
والحمد لله رب العالمين.
منقول من مجلة التوحيد
شاهد اصل الموضوع
فإن مقاصد الإسلام التي دلت عليها نصوص الشريعة هي تحقيق مصالح العباد في العاجل والآجل، وهذا ما أكده المحققون من علماء الأمة، قال العز بن عبد السلام: «إن الشريعة كلها مصالح، إما درء مفاسد أو جلب مصالح».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: «إن الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها». [منهاج السنة النبوية: 1/147].
وقال ابن القيم رحمه الله: «الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدلٌ كلها، ورحمةٌ ومصالح كلها وحكمة». [إعلام الموقعين: 3/1].
ومقاصد الحكم في الإسلام لا يقدر على تحقيقها في واقع الناس إلا الحاكم؛ لما له من سلطان، فيتمكن به من تنفيذ ما يعجز عنه آحاد المسلمين، وبذلك نختَصر الطريق ونبلغ الهدف، ونحقق المراد، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
مقاصد الحكم:
قال أهل العلم في تعريف الإمامة «الخلافة»: الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به». [الأحكام السلطانية للماوردي: ص3]. يعني بذلك أن مقاصد الحكم في الإسلام تنحصر في مقصدين:
المقصد الأول: حراسة الدين:
ويقصد بالدين هنا بداهة الإسلام، فهو الدين المطلوب حراسته بالحكم، وحراسته تعني شيئين: حفظه وتنفيذه.
أولاً: حفظ الدين:
وحفظ الإسلام يعني إبقاء حقائقه ومعانيه ونشرها بين الناس كما بلغها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار عليها هو وصحابته الكرام ونقلوها إلى الناس من بعده، وعلى هذا لا يجوز أي تبديل أو تحريف في هذه الحقائق والمعاني، لأن التحريف والتبديل يدخلان في نطاق الابتداع والإحداث في دين الله، ولا يجوز التردد أبدًا في منع التبديل والتحريف بحجة حق الفرد في إبداء الرأي وحرية الفكر والاجتهاد، لأن الفرد إن كان مسلمًا فليس من حقه أن يبدل دين الله، وإذا اختار لنفسه الضلالة ولعقيدته الفساد فليس من حقه أبدًا أن يضل الآخرين أو يفسد عقائدهم، وإن كان الفرد غير مسلم فليس من حقه أبدًا أن يخرج على نظام دار الإسلام ويشوه حقائق الإسلام وإلا كان ناقضًا لعقد الذمة، ومع هذا فقد يقع المسلم في زيغ أو شبهة أو خطأ، نتيجة فهم سقيم أو تضليل خبيث، فيجب على ولي الأمر – الخليفة – أو نائبه، أن يعمل على كشف الشبهة وإظهار الصواب بالدليل والبرهان حتى يظهر الحق ويستبين السبيل وتقوم الحجة، فإن أصر المبطل على باطله وسعى إلى نشره في الناس منع من ذلك وأقيم عليه ما يوجبه الشرع.
وقد أشار الفقهاء إلى ما ذكرناه فقالوا: إن على الإمام «حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة، فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح له الصواب، وأخذه بما يلزمه من الحقوق والحدود ليكون الدين محروسًا من الخلل، والأمة ممنوعة من الزلل». [أبو يعلى الحنبلي ص11].
ومن لوازم حفظ الدين: «تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة حتى لا تظهر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرمًا ويسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا». [الماوردي ص14].
والحقيقة أن دفع الأعداء عن دار الإسلام ضروري لحفظ الدين وبقائه؛ لأن استيلاء الكفرة على دار الإسلام ضياع للإسلام وطمس لحقائقه وفتنة عظيمة للمسلمين، وزعزعة لعقائدهم بسبب حكم الكفرة له وما يبذلونه لصرف المسلمين عن دينهم الحق بالوعد والوعيد والتلبيس والخداع والتضليل، بل نستطيع القول: إن من لوازم وتمام حفظ الدين إعلاءه وإظهاره على جميع أنظمة الكفر حتى لا يبقى للكفر حكم قائم ولا راية مرفوعة، وهذا ما أشار إليه الماوردي إذ يقول، وهو يعدد واجبات الإمام: «والسادس جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة حتى يسلم أو يدخل الذمة ليقام بحق الله تعالى في إظهاره على الدين كله». [الماوردي: ص14].
قال الله تعالى: {) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة:33].
ثانيًا: تنفيذه:
وأما تنفيذ الدين «الإسلام»، فهو المظهر الثاني لحراسته، فيتحقق في أمور منها: تطبيق أحكامه في سائر معاملات الناس وعلاقاتهم فيما بينهم، وفي علاقاتهم مع الدولة، وفي علاقة الدولة – دار الإسلام – مع غيرها من الدول، ومنها: حمل الناس على الوقوف عند حدود الله والطاعة لأوامره وترغبيهم في ذلك ومعاقبة المخالفين بالعقوبات الشرعية، ومنها: إزالة المفاسد والمنكرات من المجتمع كما يقضي به الإسلام، إذ لا يمكن الادعاء بحفظ الدين مع ترك المفاسد والمنكرات بلا إنكار ولا إزالة مع توفر القدرة على ذلك، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المقصد من مقاصد الحكم الإسلامي، قال الله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [الحج:41].
المقصد الثاني: سياسة الدنيا بالدين
والقول الجامع في سياسة الدنيا بالدين هو إدارة شئون الدولة والرعية على وجهٍ يحقّق المصلحة، ويدرأ المفسدة، وهذا يتم إذا كانت إدارة شئون الحياة وفقًا لقواعد الشريعة ومبادئها وأحكامها المنصوص عليها أو المستنبطة منها بناءً على قواعد الاجتهاد السليم، فهذه هي السياسة الشرعية لأمور الدنيا بالدين، ومن أوجه هذه السياسة التي يضطلع بها الحكم الإسلامي ويلتزم بها الحاكم المسلم، والتي أشار إليها الفقهاء ما يأتي:
أولاً: إقامة العدل بين الناس
أول مظهر لسياسة الدنيا بالدين، الالتزام التام بالعدل في إدارة شئون الناس، وعدم الحيدة عنه مطلقًا؛ لأنه هو الأساس الذي لا قيام لدولة بدونه، ولا بقاء لأمة بفقده، ولهذا كان من صفة عقد البيعة للإمام أن يقال فيها: «بايعناك بيعة رضًا على إقامة العدل والإنصاف والقيام بفروض الإمامة». [أبو يعلى: ص9].
والعدل يتضمن إعطاء كل إنسان حقه، وعدم ظلمه في شيء، فمن الظلم تكليفه بما لا يجب عليه شرعًا أو أخذ ماله بغير وجه حق، أو منعه ما يستحق، وهذا ما أشار إليه الفقهاء، فالفقيه الماوردي يقول – وهو يعدّد واجبات الإمام -: جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع نصًّا واجتهادًا من غير عَسَف، وتقدير العطاء وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقصير فيه، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير. [الماوردي: ص12].
والعلاَّمة ابن خلدون يوضح الظلم الممنوع فيقول: «ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب، كما هو المشهور، بل الظلم أعمّ من ذلك، وكل من أخذ ملك أحد، أو غصبه في عمله، أو طالبه بغير حق، أو فرض عليه حقًّا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه؛ فجباة الأموال بغير حقها ظَلَمة، والمنتهبون لها ظلمة، والمانعون لحقوق الناس ظلمة، ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران». [مقدمة ابن خلدون: ص223].
وعلى هذا يجب على الخليفة أن يقوم بما يلزم لتحقيق العدل ومنع الظلم، وأول ما يلزم في هذا الباب اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء، والثاني مراقبتهم.
1- اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء؛ لأن الخليفة لا يستطيع أن يباشر أمور الدولة والقيام على مصالح الناس بنفسه؛ لأن ذلك فوق طاقته، وإنما يباشر أمور الناس بواسطة نوابه أي الموظفين الذين يختارهم، وذلك بتخير الكفء الأمين، ومرد الكفاءة إلى القدرة على ما يتولاه، ومرد الأمانة عدم التفريط بشئون ما ولي عليه من مهام، وقد أشار القرآن الكريم إلى قانون تولي الأمور الواجب مراعاته من كل حاكم، قال تعالى: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ} [القصص:26]، فإذا وُفق الخليفة إلى حُسن اختيار الموظفين الأكفاء الأمناء حكموا بالعدل وحفظوا حقوق الناس ومنعوا عنهم الظلم، وشعر الناس بالأمن والأمان والاطمئنان وارتدع أولو الأطماع وأهل البغي، ولا يجرؤ قوي أن يعتدي على ضعيف؛ لأن الدولة أقوى منه، وبذلك يأمن الضعفاء من عدوان الأقوياء.
وهذا كله يؤدي إلى كسب قلوب الناس وتوفيق صلتهم بالدولة وتعلقهم بالإمام، فيزداد حرصهم على بقاء دولتهم، واستعدادهم للذود عنها؛ لأنها في نظرهم كالبيت لهم وكالحارس لحقوقهم، أما إذا عين الخليفة الموظفين العاجزين والفاسدين والخائنين فإن الرعية سيكتوون بنار فسادهم، ويعانون من ظلمهم وبغيهم مما يؤدي إلى ضعف صلتهم بالدولة، فتكثر الثورات و الفتن وتنتشر الفوضى ويعم الفساد.
ولا يشفع للخليفة عند الناس كرهه لتصرفات ولاته الظلمة والفاسدين؛ لأن الناس يحملونه مسئولية أعمالهم؛ لأنه هو الذي ولاهم وأسند إليهم الأعمال، فلا يكفي كون الخليفة صالحًا في نفسه، بل لا بد من اختيار الأكفاء الأمناء، قال الماوردي عند بيان واجبات الإمام: «استكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء فيما يفوضه إليهم من الأعمال ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالأكفاء مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة».
2- مراقبة الأمناء والأكفاء ومتابعتهم:
فقد يخون الأمين ويغش الناصح، وحتى لو لم يخونوا ويغشوا فالوقوع في الأخطاء أمر غير مستبعد، وظلم الناس خطأ كظمهم عمدًا من جهة حصول الضرر بالمظلوم وكراهيته للظالم، من هنا يأتي الدور المهم للمراقبة المستمرة والدائمة للموظفين حتى لا تقع خيانة أو غش، ويقل بذلك الخطأ ويعرف الناس شدة الخليفة على إقامة العدل ومنع الظلم، ويخرج هو من عهدة الخلافة ومسئولية الحكم، وقد نبّه إلى ذلك الفقيه الحنبلي أبو يعلى فقال: «على الخليفة أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور، وتصفح الأحوال ليهتم بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلاً بلذة أو عبادة، فقد يخون الأمين ويغش الناصح، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص:26]، فلم يقتصر على التفويض دون المباشرة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته» [متفق عليه].
ثانيًا: إشاعة الأمن والاستقرار:
ومن واجبات الخليفة المهمة، وكذلك حكام المسلمين جميعًا: إشاعة الأمن والاستقرار في ديار الإسلام؛ حتى يأمن الناس على أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، وينتقلوا في البلاد آمنين مطمئنين، إن هذا المقصود يتحقق بصورة كاملة بتطبيق الشريعة الإسلامية، أي بتطبيق العقوبات الشرعية على العابثين بأمن الوطن والمعتدين على الناس، شريطة أن يكون التطبيق عادلاً وعلى الجميع سواء بلا تمييز ولا محاباة، فإذا ما طبقت الأحكام الشرعية على المعتدين والخارجين على القانون، أمن الناس، وخاف المجرم، وتحقق الاطمئنان.
وقد أشار الماوردي إلى ذلك قائلاً: «وعلى الخليفة إقامة الحدود لتُصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتُحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك».
ولا شك أن العقوبات الشرعية لها أثر بالغ وفعال في منع الإجرام وتحقيق الأمان في المجتمع، فهي من مظاهر رحمة الله بعباده.
فبها ينزجر الإنسان عن ارتكاب الجريمة، فيتخلص من الإثم، وإذا وقع في الجريمة فإن إقامة الحد له تطهير وكفارة، فالحدود كفارات، كما أن هذا العقاب للمجرم مصلحة مؤكدة للمجتمع لما يترتب عليه من اطمئنان للناس على حياتهم وأموالهم وإخافة المجرمين، وهذه المصلحة العامة يهون معها الضرر الذي يصيب المجرم بسبب ما اقترفت يداه. قال تعالى: { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة:179].
ثالثاً: استثمار خيرات البلاد:
ومن مظاهر سياسة الدنيا بالدين: استثمار خيرات البلاد بما يحقق للرعية الاستقرار الاقتصادي والعيش الكريم، وقد أشار الفقهاء إلى هذا الواجب، فقد قال أبو يوسف في كتاب «الخراج» الذي وجّهه إلى الخليفة هارون الرشيد: إن على الخليفة أن يأمر بحفر الأنهار، وإجراء الماء فيها، وتحميل بيت المال وحده نفقات ذلك، وهذا نص كلامه: «فإذا اجتمعوا – أي أهل الخبرة – على أن في ذلك – أي في حفر الأنهار – صلاحًا وزيادة في الخراج أمرت بحفر تلك الأنهار، وجعلت النفقة من بيت المال، ولا تحمل النفقة على أهل البلد، وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أُجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم. وما ذكره أبو يوسف -رحمه الله- من ضرورة حفر الأنهار لأرض الخراج هو من قبيل التمثيل لا الحصر، يدل على ذلك عبارته: وكل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أرضهم وأنهارهم وطلبوا إصلاح ذلك لهم أُجيبوا إليه».
(وأرض الخراج: هي الأرض التي فتحها المسلمون وتركوها بيد أهلها على أن يدفعوا عنها ضريبة معينة تسمى: الخراج).
كما يمكن القياس على ما ذكره أبو يوسف في جميع الأعمال اللازمة لاستغلال ثروات البلاد وخيراتها على وجه يعود بالنفع العميم على الجميع، فهذه يجب القيام بها، مثل تنظيم الري في البلاد، وإقامة السدود، وتحسين الزراعة، واستخراج المعادن والبترول، وإقامة المصانع، وإصلاح الطرق التي تسهّل نقل المحاصيل، وإيجاد سبل العمل الشريفة للمواطنين، إلى غير ذلك من الأمور التي لا يمكن حصرها وعدها، وتختلف باختلاف الزمان والمكان والظروف والأحوال.
والحمد لله رب العالمين.
منقول من مجلة التوحيد
شاهد اصل الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق